التأمينات العينية و الشخصية | محاضرات أ. خليفة الخروبي

التأمينات العينية و الشخصية | محاضرات أ. خليفة الخروبي

1. تتطوّر المجتمعات بتطوّر العلوم و الثروات.  ولمّا كان القانون قاعدة إجتماعية فإن المستجدّات الاقتصادية والفنية يستتبعها حتما ظهور مؤسسات وآليات جديدة للائتمان يتسع مجالها باتساع نطاق توزيع الائتمان  والإنتاج وخلق الثروات.

لذلك تصبح الحاجة إلى الضمانات على قدر من الأهمّية
لما فيها من جهة أولى خدمة ومصلحة للمدين الذي كلما وفر هذه الضمانات توصّل إلى الحصول على ما يتطلبه نشاطه من موارد مالية ومن جهة أخرى حماية الدائن الذي يمنحه الائتمان لمدينه واحتياطه في تجنّب مخاطر الإعسار باشتراط الحصول على ضمانات يكون قد كفل استخلاص الدين.

2. ورغم بداهة هذه الاستنتاجات فإن دراسة النظم القانونية التي تستجيب لهذه المعطيات تثير بعض التساؤلات. فقد وردت عديد الأحكام في مجلة الالتزامات والعقود أو مجلة الحقوق العينية أو بعض القوانين الخاصة متضمّنة تنظيما لما يسمى "يالتأمينات" سواء كانت شخصية أو عينية تلعب كلها على ضمان الوفاء بالديون.

إلا أن مزايا هذه التأمينات في تحقيق هذا الهدف قد تبقى محدودة بل أنها تؤدي في بعض الأحيان إلى عرقلة الحياة الاقتصادية كما هو
الشأن بالنسبة إلى تجميد العقارات أو المنقولات التي قد يتم رهنها مع اشتراط منع بيعها إضافة إلى طول الإجراءات المعقّدة التي يجب على الدائن إتباعها كلّما إستدعت الحاجة تنفيذ هذه التأمينات.

3. إن هذه النقائص أدّت إلى ظهور حاجة ملحّة تقوم على مظهرين أساسيين. أولهما يهدف إلى استبقاء نظم التأمينات مع تطويرها لتدارك ما يشوبها من عراقيل لتحقيق غايتها الأساسية وثانيهما إنشاء حلول جديدة تحقق وظيفة الضمان وتتلاءم مع خصوصيات التعامل ومقتضيات تطوّر الحياة الاقتصادية بوجه عام.

 فالأخذ بنظام تشريعي موحّد للضمانات في شكل تأمينات عينية وشخصية قد لا يخدم لا مصلحة المؤسسات الاقتصادية والمالية ولا مصلحة الأشخاص.

فالحاجة للائتمان ليست واحدة لدى كل المتعاملين كما أن هؤلاء ليست لديهم نفس القدرة على تقديم ضمانات. أمّا بالنسبة للمؤسسات المانحة للائتمان فإن التجاءها للتأمينات التقليدية ضمانا لاستيفاء ديونها قد لا يشفع بنتائج إيجابية لقصور نظم هذه التأمينات في أداء وظيفتها الائتمانية.

4. لذلك أفرزت المستجدّات الاقتصادية ومتطلبات التعامل بوجه عام ضرورة للتغيير والتحديث تقوم على إعادة النظر في التأمينات التقليدية وتقييم جدواها.

كان للمشرّع أن يتدخل فتعدّدت النصوص المكرّسة للمعطيات الجديدة في العلاقات التجارية والتعاقدية بوجه عام أنماطا مستحدثة من الضمانات و مؤكدة بصفة ضمنية قصور نظام التأمينات على مواجهة واستيعاب مستجدّات الحياة الإقتصادية فالتشريعات المتلاحقة في في تنظيم توقف المؤسسات والمدينون عن دفع ديونهم عرفت تقلّبات عميقة اتسمت بالأساس بتجريد التأمينات العينية من فعاليتها.

وغياب الفعالية يؤدي حتما إلى تعطيل الإئتمان. وبوجه عام فإن توفير
حماية للدائن في استخلاص دينه يتحقّق ما بموجب تأمين خاص أو بحكم ما يحيط هذا الدين من ضمانات لوجوده في مركز قانوني أو عقدي معيّن.

5. إن العلاقة القائمة بين قانون التأمينات وبقيّة فروع القانون أفرزت حاجة متجدّدة تستجيب لضرورة التطوير استنادا إلى ما يعرفه التشريع الوطني أو القانون الدولي من مستجدّات.

وإذا كانت مقتضيات مجلة الحقوق العينية ومجلة الالتزامات العقود وعديد النصوص الأخرى أوردت تنظيما متكاملا للتأمينات إلا أنه وعلى ضوء ما تمّت إثارته ولأسباب مختلفة أصبح هذا النظام في بعض جوانبه يشكو تراجعا في أداء وظيفته الأساسية بل إن بعض التشريعات الحديثة أتت على المساس بمقوّمات قانون التأمينات إمّا بإفراز أنماط جديدة من الضمانات أو بالتقليص من جدواها.

كما أن التطوّر بالتغيير والتعديل شمل أيضا المفاهيم والمصطلحات القانونية التي ما فتثت تستقطب عبارات مستحدثة كرهن الحقوق المجرّدة والتعامل بالضمانات المستقلة وخطابات النوايا والثقة.
ولكن التراجع لم يقابله تشريعيا فكر جديد في صياغة قانون التأمينات لذلك بقيت التطوّرات مقتصرة على توجّه تشريعي أو مواقف فقه قضائية تعبّر في مجملها على نظرة واقعية أو حلول جزئية قصد تحقيق الفائدة و المصلحة أو العمل على إرساء توازن بين النجاعة التي يأملها الدائن وحماية المدين من تعتف صاحب الحق في التنفيذ.

ولذلك قد يستحسن أن يكون تطوير قانون التأمينات في شكل تحوير يمرّ عبر رؤية تشريعية وطنية شاملة بما في ذلك قانون الإجراءات الجماعية والقانون التجاري والمدني وقانون الإجراءات وغيرها من المسائل والفروع.

6. إن الوظيفة الائتمانية تتحقّق في إطار التأمينات أو الضمانات. ووحدة النتيجة بين هذين المظهرين لا تنفي وجود اختلافات.

فإذا كانت التأمينات تعبّر عن نظام قانوني محدّد له وسائله الفنية و سماته الخاصة فإن ذلك لا يتوفر في فكرة الضمان التي تعبّر عن وظيفة اقتصادية أكثر من تعبيرها عن نظام قانوني محدّد. 

فالتأمينات في جوهرها حماية بل مي تلعب على توفير ضمان للدائن لاستخلاص دين لم يد عند نشأته. وبذلك فإنها تعتبر نوعا من الضمانات والعكس غير صحيح.

فقانون التأمينات يقوم كفرع مستقل حول أنظمة أساسية هي الكفالة والرهن والامتياز بينما الضمانات لم تنحصر في فرع معيّن من فروع القانون. فهناك عديد الأنظمة القانونية في قانون الالتزامات والعقود أو في قانون الأموال تقوم على تحقيق وظيفة الضمان بصفة أصليّة أو بصفة عارضة.

من ذلك أنه في قانون الالتزامات هناك قواعد متّصلة برابطة الالتزام تشكّل نوعا من الضمانات الفعالة كالفسخ لعدم التنفيذ أو الدّفع بعدم التنفيذ را المقاصة. بل إن بعض هذه الأنظمة مخصص أساسا لتحقيق ضمان الدائنين كالدعوى المباشرة والتضامن السلبي. أمّا في قانون الأموال فقد تم توظيف الإحتفاظ بالملكية ونقل الملكية لتحقيق نوع من الضمان يفوق في نجاعته التأمينات العينية.

فالملكية لم تعد غاية في ذاتها بل أصبحت وسيلة لتحقيق غاية أخرى هي الضمان.

7. إلا أن جملة هذه الضمانات خلافا للتأمينات تعتبر أثرا لمركز محدّد أو المجوعة من الروابط أو لطبيعة هذه الروابط ينما تضاف التأمينات إلى رابطة الالتزام ولا تعدّ بحال من الأحوال مجرد أثر لهذه الرابطة. فهي تنشأ بموجب مصدر مستقل عن مصدر رابطة الالتزام التي تعمل على ضمان الوفاء بها وهذا المصدر قد يكون الاتفاق أو القانون أو القضاء.

ومن هنا نشأ التردّد في إدخال بعض الضمانات اللصيقة برابطة الالتزام مثل بند الاحتفاظ بالملكية كإحدى المكوّنات الأساسية في دراسة قانون التأمينات.

و جملة هذه الأسباب فرضت تقييما و تقسيما.  فالمشرع في تنظيمه لما يكفل ضمان الوفاء بالالتزامات حدّد تأمينات معينة أعطاها إسما خاصا و إبتلرها فرعا مستقلا.
إلا أن تدخله لم يكن لينزع عن بقية الوسائل و المؤسسات القانونية ما تحققه من ضمان.

8. إن فكرة الضمان تنبني على تطوّر الحياة الإقتصادية . فهي في حد ذاتها متطورة بما يجعلها تحتوي على وسائل متعددة و متجددة في سبيل تحقيق الوظيفة الإقتصادية المرتقبة من وراء الضمان.

أما التأمينات –التي تمثل صنفا من الضمانات- فهي أنظمة قانونية تقوم على وسائل فنية تفصيلية و بذلك فإنها تتسم بنوع من الجمود و لا تتطور إلا عرضا بتدخل من المشرع.

9. وإذا كان الدائن غالبا ما يسعى إلى الحصول على ما يضمن له استيفاء حقه بأيسر السبل فإن ذلك يؤدي إلى ظهور ضمانات جديدة تتجدّد كلما استوجبت التطوّرات الاقتصادية ذلك أو كلما أظهرت التأمينات التقليدية قصورها على أداء وظيفتها.

فقانون التأمينات يمثّل فرعا مستقلا يستمدٌ خصوصيته من قيام أنظمة أساسية أعطاها المشرّع اسما كالكفالة والرهن والامتياز وجعل منها ضمانات مسمّاة.

والسمة العامة لهذه الأنظمة استعمالها للوسائل الفنية لنظرية الإلتزامات أو للحق العيني و لكن بصفة تبعية فهي بذلك لا تمثل هدف في ذاتها و لكن إذا وجدت فإنها تقوم على كنظام قانوني محدد قد يسمح للدائن في إلتزام بأداء مال بإستيفاء هذا الدين من ذمة مدينه متقدما على الدائنين العاديين و الدائنين التالين له في المرتبة. وهذه الأفضلية في التأمين العيني يعززها الحق في التتبع.

وإذا لم يوجد هذا التأمين العيني الخاص كان للدائن الحصول على حقّه من ذمّة الغير الذي يلتزم بالوفاء بصفة أصلية أو تبعيّة بحسب الأحوال. وإلى جانب التأمينات العينية والشخصية يجب أن يفسح المجال لوسائل أخرى للضمان تختلف في قرّتها ومداها بحسب قدرتها على استبعاد أو تقليل المخاطر التي يتعرّض لها الدائن في استيفاء حقّه.

و هذه الوسائل لا يمكن إخضاعها لنفس نظم التأمينات لاختلافها في الطبيعة والمصدر. فهي  ضمانات غير مسمّاة  بالمقابلة للضمانات المسمّاة بما تشمله من تأمينات عينية و شخصية.

10. إن تطوّر الحياة الاقتصادية أدّى إلى تزايد الإقبال على الضمانات غير المسمّاة. والوقوف عند هذا الأمر قد تكون له دلالة تتمثل في وجود أعراض  مرضيّة معينة طرأت على نظام التأمينات. فالبحث عن ضمان فعّال هو بحث عن علاج لهذه الأعراض التي تكشف عن عدم ثقة في القّة الملزمة للعقد وعن عجز القانون وعدم قدرة وفعالية إجراءات التنفيذ الجبري على تحقيق أهدافها.

فالسعي إلى الحصول على ضمان أو أكثر إنما يعتبر من قبيل البحث عن سدّ الثغرات في نطاق المعاملات التي لم تعد كافية للوفاء بالالتزامات.

11. المدخل في عمومية محاوره أظهر جوانب عديدة لقانون التأمينات. وما أثير في هذا الإطار أدى بالأساس إلى الربط بين "لتأمينات" وفكرة الضمان بما تقوم عليه من سعي إلى توفير الحماية وتجنّب المخاطر ‏إن التأمينات في الأصل تؤمّن الدائن من خطر إعسار المدين. فإذا حل أجل الوفاء بالدين كان للدائن صاحب التأمين حظوظا أوفر في استخلاص دينه مقارنة بغيره من دائني نفس المدين لأنه يكون قد أمن الإفلات من قاعدة المساواة التي تحكم الدائنين العاديين عند التنفيذ على مكاسب مدينهم.

وبذلك تلعب التأمينات على توفير نظام قوامه الإستجابة إلى الثقة المنشودة من التعامل مع السعي إلى ضمان العدالة والإنصاف. والثقة من جوهر التأمينات و خاصة منها التأمينات الاتفاقية. فهي لا تخص الدائن فحسب بقدر ما تومته للمدين من مصلحة في تعامل مع دائن يطمئنّ إلى مصير نشاطه الائتماني إذ يبقى الاقتراض بوجه عام منحصرا في داثرة من يحتاجه وتكون له القدرة على الوقاء. فوظيفة التأمينات بهذا المفهوم تكون بطمأنة الدائن وتيسير السبل أمام المدين للحصول بالاقتراض على ما يفتقر إليه من تمويلات.

و على وجه التقريب والتبسيط لا بِدّ من التأكيد على أن نظام التأمينات بوجه عام ساعد بقدر كبير على تعميم الملكية العقارية وتنشيط القروض الاستهلاكية وتكوين المؤسسات الاقتصادية. ومن هذا المنطلق الذي تتعدّد إيجابياته تحقق التأمينات دورا جديدا لمكوّنات الذمّة المالية بإدخالها في إطار تفاعلي مع ما يستدعيه نشاط الشخص أو حاجته من اقتراض.

وعليه كانت دراسة التأمينات في علاقة بشتى الميادين القانونية الأخرى.

فهي تتأثر بالالتزامات التي تنشأ في ذمّة المدين بل تكون أيضا مصدرا للالتزامات لتنصهر بطبيعتها في دائرة قانون الالتزامات والعقود. كما أن التأمينات خاصة ما كان منها من طبيعة تتفاعل مع قانون الأموال ومع مقتضيات القانون العدلي الخاص فيما يحدّده من إجراءات وطرق التنفيذ الجبري وما يقيمه قانون التأمينات من علاقة مع فروع القانون الخاص والعام أظهر قصور هذه المقتضيات في تحقيق الغرض الأساسي منها وهو تنشيط الائتمان مع توفير حماية للدائن. فقد تعتريها صعوبات ونقائص بما يفسح المجال أمام مؤسسات قانونية أخرى تؤدي بطبيعتها وظيفة ضمان للدائن في استخلاص ديونه.

و هذه الضمانات (الجزء الأوّل) تتعدّد صور تدخلها بما بما يستوجب رصدها كظاهرة في نطاق القانون الخاص لبيان مختلف صورها ومدى فعاليتها قبل دراسة التأمينات (الجزء الثاني).