حق الطفل في الهوية | أ. سنية العرفاوي


حق الطفل في الهوية


يقر العميد " Carbonnier " أن الأشخاص بالمعنى القانوني للكلمة هم الكائنات المؤهلة لاكتساب الحقوق فهم بعبارة أخرى أصحاب الحقوق  واتفق جل رجال القانون في تحديد مفهوم الشخصية القانونية على أنها القدرة على اكتساب الحقوق والواجبات ولا يتحقق ذلك الا بتحديد هويتها.

و الهوية ظاهرة إنسانية ملازمة للكائن البشري – فردا أو جماعة - تكون ظاهرة في حالة كمون في الظروف العادية غير أنها تخرج من طور الوجود بالقوة الى طور الوجود بالفعل عندما يستفزها الآخر.

وتعتبر الهوية في معناها القانوني هي جملة العناصر والعلامات المميزة للفرد إذ لا تكفي الشخصية القانونية بمفردها لتمييز الأفراد بعضهم عن بعض ولابد من عناصر تعرف بالحالة المدنية للشخص وتحدد مركزه القانوني في المجتمع   فالهوية تعد من الحقوق الخاصة بذات الإنسان كالحق في الحياة والحرية وان هذا الحق ينشأ بمجرد الإعلان عن ولادة الطفل سواء كان طفلا شرعيا أو غير شرعي ويكفي أن يولد حيا حتى تنشأ شخصيته القانونية لتنتهي بعد ذلك بوفاته حيث تمثل الفترة الزمنية بين تاريخ النشأة  و تاريخ إنقضاء المسيرة الحياتية والقانونية للفرد والتي تربط آليا باكتساب الحقوق وتحمل الواجبات المفروضة قانونا ضمانا للتعايش السليم بين أفراد المجتمع  ووقع بيانها صلب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 وذلك توصلا للقضاء على كل شعور بالحرمان أو بالنقص أو التهميش أو الإقصاء من شأنه أن يؤدي الى ظهور فئات مهمشة أو ناقمة وسط المجتمع

وتكتسي الهوية باعتبارها تبين انتماء الشخص أهمية خاصة بالنسبة للطفل ضرورة أن فقدانها يضر بمصلحته الفضلى  نفسيا واجتماعيا ويحدث تمييزا بين الأطفال على أساس المولد أو الأصل الاجتماعي وهو ما لا تسمح به اتفاقية حقوق الطفل التي وقع إقرارها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والأربعين يوم 20 نوفمبر 1989 والتي انخرطت فيها الجمهورية التونسية بمقتضى القانون عدد 93  لسنة 1991 المؤرخ في 29 نوفمبر 1991 في فصلها الثاني وما يتنافى جوهريا مع مبدأ المساواة بين كافة المواطنين أمام القانون حسب الفصل 6 من دستور الجمهورية التونسية.

كل هذه القوانين تفتح المجال واسعا أمام كل عناصر المجتمع بمختلف فئاته وأفراده لاكتساب الهوية  بمفهومها الحديث من جنس و إسم و لقب  و تاريخ ميلاد وجنسية أن لم نقل نسبا أيضا وذلك استنادا الى أن أغلب التشريعات المعاصرة تعترف للطفل الشرعي بحق اكتساب لقب والديه ليحيله بعد ذلك إلى أبنائه فيصبح اللقب وسيلة لاكتساب وضعية عائلية شرعية ومستقرة .

لذلك بفضل النسب يلحق الطفل المولود بعائلته التي تكون لها بفضل العادات لقبا ثابتا ومشتركا وقابلا للإحالة بين جميع أفرادها بما يسمح له بمعرفة والديه الحقيقيين واكتساب حقوق بمقتضى البنوة النسبية كحقه في الهوية وخاصة اللقب العائلي وكذلك حقه في الإرث وغيرها من الحقوق.

ولا يجد الأطفال الشرعيون أي صعوبة في التمتع بكامل عناصر الهوية باعتبار أنها تنقل إليهم آليا عن طريق الآباء والأجداد بينما يبرز الإشكال خاصة بالنسبة لبعض الفئات المهمشة من اللقطاء المهملين ومجهولي النسب .

فـاللقيط في التعريف اللغوي للعبارة نجد أنها مشتقة من مفردة لقطة واللقطة هي الشيء الملقى والمعرض للالتقاط ،

وبالرجوع لكتب الفقه نجد أن منها من عرف اللقيط بكونه مولود نبذه أهله فرارا من تهمة الزنا أو خوفا من الفقر أو لسبب آخر .

وأما الطفل مجهول النسب فهو الطفل الغير معلوم الأب أو الذي قام الأب الذي انتسب إليه بنفي نسبه عنه وقد يكون الطفل مجهول النسب مطلقا بمعنى لم يعرف له لا أب ولا أم .

فجاء قانون 28 أكتوبر 1998 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين و مجهولي النسب تتويجا ، كما جاء بالأعمال التحضيرية لهذا القانون "انه في نطاق تكريس مبادئ حقوق الإنسان في كافة الميادين وضمان هذه الحقوق للفرد داخل المجتمع ، اتجه الاهتمام بهوية الشخص باعتبارها من الحقوق البديهية التي يكتسبها الفرد بمجرد كونه إنسانا "

وإذ كان قانون 28 أكتوبر 1998 يتعلق بإسناد لقب عائلي  للأطفال المهملين أو المجهولي الأب إلا أن هذا العنوان كان مخفيا لطبيعة الطفل المراد إسناد اللقب العائلي إليه فهو ابن طبيعي لم يتولى المشرع أن يكشف القناع بصورة واضحة وصريحة عن نوع بنوته ولقد مكن هذا القانون لأول مرة الطفل المهمل أو مجهول النسب من إثبات هويته الحقيقية وأقر إمكانية الطفل القيام بدعوى في إثبات الأبوة وإسناد اللقب العائلي الأبوي و أدى الى نتائج ايجابية تتمثل بالخصوص في تقلص ملحوظ لعدد الأطفال مجهولي النسب .

لكن الإضافة التشريعية الجديدة  والتي تعتبر هامة في مجال حقوق الأطفال المهملين ومجهولي النسب هو إقرار هوية افتراضية وهمية للطفل المهمل أو المجهول النسب لتفادي بقاءه دون هوية وذلك في  صورة عدم إثبات هويته الحقيقية .

هاته الشريحة من الأطفال ، والبعض منهم لم يعد كذلك تعاني من إشكاليات ناتجة عن حرمانها من الحق في الهوية مع كل ما يترتب عن هذا الأخير من آثار .

وحري بالذكر أن قيمة الحق في الهوية لا تنبع فقط من أهمية الآثار المترتبة عنه وإنما أيضا من الأسس التي من أجلها تم ترسيخه كحق أولي من حقوق الشخصية ، هذه الأسس هي بالأساس نفسية  و اجتماعية ذلك أن علماء النفس والاجتماع يتفقون على مبدأ مفاده أن الطفل مرآة عاكسة لمنشئه أي لمولده ومحيطه الأسري ، فللطفل حاجيات نفسية واجتماعية في أن يكون ملحقا بأمه ولكن بنفس الأهمية وربما بدرجة أشد الى أبيه وذلك بواسطة حمل لقبه .

وعلى العكس من ذلك فان لم يقع إشباع غريزة الانتماء لدى الطفل فان ذلك من شأنه أن يؤدي الى إعاقة نفسانية لديه نتيجة لعدم الانتماء وما ينجر عنه من انخرام التوازن النفساني واضطراب السلوك الاجتماعي فينطلق من الإحساس بالتهميش والإقصاء لينتهي به الأمر ربما الى النقمة على المجتمع وقد يصل به الأمر الى الانحراف .

ولا يخلو الحق في الهوية من الأهمية اذ لا يمكن تكوين مواطن صالح متوازن الشخصية في غياب انتساب لعائلة ولوطن وتبرز هذه الأهمية على الأقل على مستويين فعلى المستوى النظري تكتسي الهوية  باعتبارها تبين انتماء الشخص أهمية خاصة بالنسبة للطفل ضرورة أن فقدانها يضر بمصلحته الفضلى  نفسيا واجتماعيا ويحدث تمييزا بين الأطفال على أساس المولد أو الأصل الاجتماعي وهو ما يتنافى مع  مبدأ عدم التمييز المضمن بالمادة الثانية من اتفاقية حقوق الطفل ومبدأ الحق في معرفة الجذور الذي نص عليه الفصل 7 من نفس الاتفاقية .

وبما أن الجمهورية التونسية قد صادقت على هذه الاتفاقية فإنه أصبح لزاما عليها ملائمة تشريعها الوطني ليكون منسجما مع التزاماتها الدولية .

أما على المستوى التطبيقي فتفيد الإحصائيات أنه سجل في تونس سنة 1990 ولادة 711 طفلا خارج  إطار الزواج وفي سنة 1996 ارتفع هذا العدد ليصل الى 1065 طفل مجهول النسب .

وبناءا على هذه الإحصائيات التي تكون قد تفاقمت في الأثناء فضلا عن النسب غير المحصاة رسميا كان لابد من التفكير في آليات جديدة تمكن الطفل في حقه في الانتساب أي حقه في الهوية بأقدس مفاهيمها  ومعانيها ، خاصة وأن المحاكم قد اختلفت في ظل محاولات المشرع السابقة لقانون 28 أكتوبر 1998 لتسوية وضعية شريحة خاصة من الأطفال المهملين ومجهولي النسب فيما يخص هويتهم والتي كانت دون الإتيان بحل دائم  وشامل ، فتشددت بعض محاكم الأصل وساندتها في ذلك محكمة التعقيب في تطبيق النصوص المتعلقة بإثبات النسب مما أدى إلى استحالة إثبات النسب في غياب زواج سواء كان صحيحا أو فاسدا .

في حين أن شق آخر في فقه القضاء كان مدفوعا بإرادة إثبات هوية وتحقيق مصلحة الطفل فتساهل في  إثبات نسب مجهولي النسب إلى حد خرق النصوص القانونية في بعض الأحيان فكان لا بد من وضع حد لهذا التضارب بين المحاكم  وإيجاد حل لإشكاليات الهوية .

وتعتبر الهوية قيمة محورية لا يستطيع الفرد في غيابها الارتقاء بواقعه وطموحاته نحو الأفضل وهي من الحقوق المتصلة باحترام حياته و بإبقائه على صلته بعائلته ووطنه ، فهي حق أولي لصيق بالشخصية  مرتبط شديد الارتباط بالإعلان عن الولادة وهي مرتبطة كل الارتباط بأب المولود أولا ثم بالأم ،

لكن إذا كانت هذه الولادة غير مرغوب فيها أو إذا كان الأب المفترض للطفل غير معروف فهل لهذا الطفل يمكن  أن تكون له هوية ؟

وبالتالي فان هذا الحق يختلف بحسب وضعية الطفل أو بالأحرى بحسب كيفية قدوم أي طفل إلى هذا العالم أخلاقيا مع مراعاة القوانين التي يعتمدها البلد الذي ينتمي إليه عند ولادته أو البلد الذي ينتمي إليه بالأخص والده .

من هذا المنطلق يشعر أي شخص ما لهذا الموضوع من أهمية ومن هنا أيضا تتبلور أهمية هذا الموضوع و حساسيته و عليه يكون من الوجيه طرح السؤال التالي :

ماهي صور الهوية وآثارها على حقوق الطفل ؟

ويكون من المتجه دراسة صور الهوية ( الفصل الأول ) وآثارها ( الفصل الثاني )