عقد الهبة في القانون التونسي | محاضرة ختم تمرين




محاضرة ختم التمرين PDF للأستاذة سوسن المرابط بعنوان "عقد الهبة في القانون التونسي" أطرها أ. يوسف الرزقي و تحت إشراف أ. مراد يعيش للسنة القضائية: 2010-2011 .
            

                  قال الله تعالى في كتابه العزيز:" يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور" ، ومن خلال هذه الاية الكريمة نتبين ان المولى عـز و جل يتسم بصفة الوهاب و هو اسم  من اسمائه الحسنى اصطفى به نفسه و  صفة  نبيلة غرسها في عباده, ففي الهبة تتجسد مظاهر روح العطاء و  مد يد  المساعدة للاخر.


         والمقصود بـالهبة لغة  مطلق التبرع و التفضل سواء كان بمال أو بغيره ( ) فقد يرتئي الشخص من خلال التصرف في ماله إلى فعل الخير و مد يد المساعدة للغـير و ذلك من خلال هبة بعض أمواله فيلتزم بإعطاء شيء سواء كان عقارا أو منقولا و ينقل ملكيته للموهوب له دون عـوض و من هذا المنطلق، يحتل عقد الهبة صدارة العقود المسماة التي نظمها القانون التونسي من حيث القيمة الأخلاقية إذ أن الدافع لإبرام عقد الهبة يتمحور حول حب الخير و قطع أصول الشح  و البخل من النفس البشرية.

       ومعنى الهبة في إصطلاح الفقهاء أنها تمليك المال في الحال مجانا و قيل تمليك المال بلا عوض حال حياة المملك  .
      والهبة عقد جائز شرعا و قد ثبت جوازها بالكتاب و السنة، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قال:" الواهب أحق بهيبته ما لم يثب عنها " و فضلا على أن الهبة تنضوي في باب الإحسان  و تحث على إكتساب سبب التودد بين الأشخاص و فـي هذا السياق نذكر حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم  " تهـادوا تحــابوا ".
     
         ولعل هذه القيمة الإنسانية و معنى التفضل و الإحسان الذي يؤسس  قوام الهبة يعد السبب الذي جعل المشرع التونسي لم ينظم أحكام عقد الهبة ضمن العقود المسماة بمجلة الإلتزامات و العقود وإنما أدرج عقد الهبة ضمن مجلة الأحوال الشخصية إيمانا منه بالمكانة التي يحظى بها عقد الهبة من خلال كثرة تداوله و مساهمته في تماسك العلاقات الأسرية مع المحافظة على روح العطاء و التوادد نظرا وأن معظم الهبات تكون عادة بين الأقارب الأمر الذي يبرر  مسألة إعتبار كون عــقد الهـبة  يعد من قبيل مسائل الأحوال الشخصية .

وحيث أن فقه قضاء محكمة التعقيب منذ سنة 1961 ذهب إلى اعتبار أن عقد الهبة يعد من قبيل الأحوال الشخصية كما يتجلى ذلك من خلال المبدأ الذي كرسه القرار التعقيبي المدني المضمن تحت عــدد 1202 المـــؤرخ في  03 جويلية 1961 و الــذي ورد فــيه  :" أن الهبة من العقود التبرعية الداخلة في الأحوال الشخصية".

    فعقد الهبة حينئذ يظل خير مظهر تتجلى من خلاله الطبيعة التبرعية التي تكرس مد يد المساعدة للغير و بقــاء روح النبل و العــطاء و الإحساس إبتغاءا لوجه الله من دون أي مطامع دنيوية وهو ما يميز عقد الهبة عن عقود العوض التي تمثل الإعتبارات المالية ركيزتها الأساسية , ففي عقد البيع يكون تمليك للعين في مقابل الثمن في حين يبقى التمليك في الهبة مجانيا.

و حيث تبرز جليا الطبيعة المجانية لعقد الهبة من خلال التعريف القانوني الوارد بالفصل 200 من مجلة الأحوال الشخصية الذي ينص:" أن الهبة عقد بمقتضاه يملك شخص شخصا آخر مالا بدون عوض ويجوز للواهب دون أن يتجرد عن نية التبرع أن يفرض على الموهوب له القيام بإلتزام معين و تسمى هبــة عــوض".
وحيث إستنادا إلى هذا التـعريف نتبين أن عـقد الهبـة يتـميز بخاصيتين :

ü                الخاصية الأولى: ان عقد الهبة يبرم ما بين الأحياء و ينفذ حال حياة الواهب و ذلك عند توفر أركانه وفي صدارتها تطابق إيجاب الواهــب و قبول الموهوب له، و هنا نشير إلى أن الهبة تختلف عن الوصية وان كانت تشترك معها في الطبيعة التبرعية ذلك أن الوصية تمليك مؤجل إلى ما بعد وفاة الموصي و بالتالي لا يترتب عليها إفقار  للذمة المالية للموصي في قائم حياته، كما ان الوصية تنعقد بإرادة  الموصي المنفردة مما يجيز له الرجوع فيها مادام على قيد الحياة، بينما الهبة عقد لا يمكن الرجوع فيه إلا في حالات معينة.

ü                الخاصية الثانية:  أن الهـبة عقد يتكون من عنصرين الأول مادي و الثاني معنوي. العنصر المادي  يتحقق بتصرف الواهب في ماله بدون عوض سواء عن طريق الإلتزام بنقل حق عيني كأن ينقل للموهوب له ملكية عقار  أو منقول أو عن طريق الإلتزام بحق شخصي بالإعطاء كأن يلتزم الواهب للموهوب له بإعطائه مبلغا من المال.
وعندما يتصرف الواهب في ماله بدون عوض فذلك من شانه أن يجعل الهبة تعد عقدا من عقود التبرع و هنا يتـعين التمييز بين اللفظين، ذلك  أن كل هبة عقد تبرع لكن ليس كل عقد تبرع هبة و قد إعتبر فقهاء  القانون المدني أن عقد الهبـة ينصب على  الملكية  و بالتالي يلتزم الواهب  بنقل ملكية الشئ الموهوب إلى الموهوب له دون مقابل في حـين تنصب عقود التبرع الأخرى و تــسمى عقـود تفضل أو عقود التبرع بالخدمات على المنفعة أو الخدمة فيترتب على ذلك أن المتبرع يلتزم بالقيام بعمل أو الإمتناع عن القيام بعمل نذكر على سبيل المثال عارية  الإستعمال فلا يعتبر تصرفه تبعا لذلك هبة حتى وإن كان متبرعا.

أما إسقاط الدين وهو نزول عن حق شخصي و الإشتراط لمصلحة  الغير وهو إلزام الغير بحق شخصي للمنتفع فلا يمكن إعتبارهما سوى هبة غير مباشرة نظرا لكونهما لا يتضمنان  إلتزاما بنقل حق عيني أو الإلتزام بحق شخصي مثلما هو الشأن في الهبة المباشرة.

و سواء إلتزم الواهب بنقل حق عيني للموهوب له، أو الإلتزام له بحق شخصي بالإعطاء فيجب أن يكون إلتزامه بلا عوض نظرا لكون الهبة ترتكز أساسا على مفهوم التبرع و يكون مجسما  بإفتقار للمتبرع و تحسين للذمة المالية للمستفيد من التبرع.

    ويستشف أيضا من الفقرة الثانية من الفصل 200 من م.أ.ش بأنه يجوز أن يشترط الواهب عوضا لهبته و ذلك بشرط أن يكون العوض أقل من الهبة لأن الفرق بين قيمة المال الموهوب و قيمة العوض يعتبر هبة بلا عوض و من هنا يمكن التمييز بين الهبة بدون عوض و الهبة بعوض و في بعض الأحيان يحصل لبس في تحديد صفة عقد خاصة إذا ورد في عقد أن أحد المتعاقدين وهب شيئا إلى معاقدة شريطة أن يقوم هذا الأخير ببعض الإلتزامات التي يفرضها عليه الواهب و يقبل بها الموهوب له. و من أجل تحديد صفة العقد فلا يجب الإطمئنان للتكييف المسند من الأطراف إذ قد تتجه نيتهما  إلى تمويه الغــير و لذلك يتعين الأخذ بعين الإعتبار بجميع عناصر العقد ( أي عناصره المادية والمعنوية) فيجب دراسة نيـة المتعاقـدين  و الغاية  من إبرام الـعقد و كذلك أهمية الإلتزامات المحمولة على عاتق المتعاقد الذي تملك المال المسلم إليه بموجب العقد، فإذا تبين أن الإلتزامات تكون أقل قيمة بالمقارنة مع قيمة المال الموهوب و كانت لصاحب المال  نيـة في التبرع لفائدة المتعاقد الآخر إعتبر العقد حينئذ عقد هبة و على الرغم من عـدم الــدقة و الوضوح الذي يكتنف الفقرة الثانية من الفصل 200 من م.أ.ش  فان المشرع التونسي قد سلك هذا المنهج لتكييف العقد على انه عقد هبة و لم يكتفي بالمعيار الإقتصادي بل اعتد كذلك بالمعيار  الــذاتي الذي يشترط نيــة التبرع.

فلا يكفي لتوفر عقد الهبة تصرف الواهب في ماله دون مقابل بل يجب أن يرتكز هذا التصرف على نية التبرع ذلك أن الشخص قد يتنازل عن ماله دون عوض و لا تكون له نية التبرع وإنما قصد الوفاء بإلتزام طبيعي فيكيف تصرفه على انه وفاءا و ليس هبة.

 أما العنصر المعنوي المتمحور في نية التبرع فهو مسألة نفسية بحتة، و العبرة تحدد بنفس المتبرع زمن التبرع : فإذا إتجهت إرادة الواهب إلى التبرع المحض دون البحث عن أية منفعة أخرى تتوفر بذلك نية التبرع ويكيّف العقد هبة، أما إذا إتجهت نية الواهب إلى تحـقيق  منفعة شخصية له سواء كانت مادية أو معنوية يكيّف العقد على أنه عقد معاوضة حتى و إن تخلفت المنفعة.

فالمنفعة و إن كانت معنوية تنفي نية التبرع ، فإذا كان الدافع الأدبي قد تراءى في شكل فائدة خاصة بالواهب فهنا تقوم المنفعة المعنوية مقام المصلحة المادية في تكييف العقد على انه معاوضة،  ففي صورة ما إذا وهب شخصا مالا قصد إقامة مدرسة فإنه يعتبر واهبا إذا إتجهت نيته إلى مجرد تعليم الفقراء ومد يدي المساعدة لليتامى لكن في صورة ما إذا إشترط الشخص أن تسمى بإسمه فإن التصرف الصادر عنه يعد معاوضة و ذلك لإنتفاء نية التبرع طالما و أنه أراد جني منفعة ذاتية.

فنية التبرع تعد حينئذ عنصر على غاية الأهمية لإضفاء صفة التبرع على عقد الهبة إلا أن هذا العنصر يظل محدودا إذا وقع تكريسه بصورة منفردة ضرورة أن نية التبرع أمر نفساني مرتبط بالواهب و ليس بالهين معرفة النوايا الحقيقية للواهب إلا في صورة ما إذا تجسمت في إلتزامات موضوعية يفرضها على الموهوب له فيتعين إذن المزج بين العنصر المادي و العنصر المعنوي قصد تحديد صفة العقد هل هو عقد تبرع  أم لا ؟ و ذلك يتجسد إذا ما تحققت نية التبرع لدى الواهب وكانت مجسمة بإفتقار في جانبه و بإثراء الذمة المالية للموهوب له.

و في صورة ما إذا ثبت أن الهبة عقد تبرع فستنجر عن ذلك حتما جملة من النتائج:

 * أن الغلط في شخص الموهوب له سيؤثر على صحة عقد الهبة إلا انه إذا خير الشخص هبة ماله فلابد أن يقصد عادة شخصا معينا لكي يستفيد من التبرع،  فإذا أخطأ الواهب في الشخص و سلم الشئ الموهوب لشخص آخـر جـاز له طلب الفسخ لأن شخصية الموهوب له هي الدافع لإجراء الهبة وذلك بخلاف ما إذا كانت العقد معاوضة فالغلط في شخص المعاوض لا يكون موجبا للفسخ.
*و لقد تشدد المشرع التونسي  كذلك في أهلية الواهب و يتطلب أهلية التبرع نظرا لكون الواهب يقوم بعمل ضــار به ضررا مـحضا و في المــقابل يخفف من أهلية الموهوب له طالما و انه يقوم بعمل نــافع له نفــعا محضا.
* الإلتزام بضمان الإستحقاق و العيوب لا يتحمله الواهب إلا في حالات إستثنائية معينة و ذلك بخلاف المعاوض الذي يتحمل هذا الإلتزام و لو كان حسن النية و نظرا لما لعقد الهبة من خطورة لا تخلو من  إنعكاسات سلبية على الذمة المالية للواهب إذا يتجرد الواهب عن ماله دون مقابل ولذلك حاول المشرع حماية الواهب حتى يكون واعيا بطبيعة التصرف الذي سيبرمه فجعل المشرع الهبة عقدا شكليا وذلك حتى يتبصر الواهب في الأمـر الذي سيقدم عليه أو يتراجع فيه، كما أن المشرع قد  مكن الواهب من الرجوع في هبته لموانع معينة.

 وتبعا للمقومات التي يرتكز عليها عقد الهبة،  فإن دارسة هذا العقد تكتسي أهمية نظرية وأخرى عملية.
ü       على المستوى النظري  تتجلى أهمية هذا الموضوع من خلال أسمى النزعات الإنسانية التي تتجسد في فعل الخير و نكران الذات و إزالة الشح عن النفس  و إدخال السرور في قلب الموهوب له فهو سلوك إجتماعي يعكس مدى تماسك الأواصر العائلية في المجتمع.
ü       أما على المستوى العملي فإن عقد الهبة لم يأخذ حظه من الدارسة على مستوى الدراسات الفقهية التي من شانها ان تبدد ما قد يعتري هذا العقد من غموض، ولربما يكون مرد هذا الإقتضاب  هو الإعتقاد السائد بان هذا العقـد قد نظمته بإطـناب أحكام الفــقه الإسلامي و الحال و أن هذا العقد أصبح منذ القانون المؤرخ في 28 ماي 1964 يخضع لأحكام الكتاب الثاني عشر من مجلة الأحوال الشخصية
ولئن كانت هذه الأحكام  قد إقتبست بوجه خاص من الفقه الإسلامي إلا أنها تشهد إختلافا حتما في بعض المواضع و الإشكاليات و لقد أبرز لنا التمييز بين عقـــد الهبة و غيره من العقود المسماة عدة خاصيات ترتبط بهذا العقد مما سيجعل لتلك الخاصيات تأثـير على شــروط إبـرامه ( الجزء الأول) و بالتالي فان تلك الخاصيات ستجعل لعقد الهبة آثار قانونية متميزة ( الجزء الثاني).