ليس ثمة مادة من مواد القانون أبلغ من الإجراءات الجزائية "la procédure pénale" للتعبير عن مدى عبقرية شعب من الشعوب, وعن مدى ما توصل إليه في مجال تكريس الحريات وحقوق الإنسان فضا وممارسة.
فالإجراءات الجزائية التي تنظم أحكامها سير القضية الجزائية بدءا بطور ما قبل المحاكمة، مرورا بطور المحاكمة وصولا إلى طور التنفيذ تختزل جملة من الأبعاد و المعاني تتجاوز مضامينها حدود النظرة القانونية الجافة والمعقّدة التي تميّر في غالب الأحيان سائر المواد القانونية إلى نظرات أخرى أرحب وأفسح. منها ما يتصل بعلاقة الحاكم بالمحكوم1، وبعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض2؛ وبعلاقة هؤلاء جميعا مع واقعهم ومحيطهم الداخلي والخارجي3 ومع ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم4.
ففيما تعلق بعلاقة الحاكم بالمحكوم, نبرز أحكام الإجراءات الجزائية سياسة الدولة في المجال الجزائي عامة وفي مجال الحريات الفردية على وجه الخصوص؛ كما تبرز نوعية المقاربة التي تعتمدها الدولة لمعالجة بعض الظواهر الإجتماعية ونظرتها لحقوق المتقاضين سواء كانوا متضرّرين أو متهمين أو محتجزين على ذمة العدالة. ورؤيتها لهذه الحقوق في سياقها لتاريخي.
وفيما يتصل بعلاقة أفراد الناس بعضهم ببعض تعكس أحكام الإجراءات الجزائية طبيعة العلاقات الإجتماعية السائدة في مجتمع من المجتمعات وملامح عقليتها الجماعية وذلك بالبحث من خلاها عم إذا كان الناس ميالون للتشكي والتشفي أوهم يمارسون حقوقهم في إطار روح من الإعتدال والتوازن ويمكن أن نضرب لهذا الكلام مثل حق القائم بالحق الشخصي الذي كان يشمل قبل تتقيح 22 نوفمير 1993 إمكانية طعنه في القرار الصادر عن قاضي التحقيق بالإفراج المؤقت عن المتهم وذلك تكريسا لعقلية التشفي والأخذ بالثأر. ولأن هذه القلية قد تقادمت وولَى عهدها فقد ألغى المشرع هذا الحق للقائم بالحقّ الشخصي وترك أمر الطعن في قرار الإفراج إلى النيابة العمومية الثي لها وحدها حق الدفاع عن مصالح الهيئة الإجتماعية دون تدخّل من المتضرّر الذي كفل له القانون حق المطالبة بما هو مجحف بحقوقه المدنية.
وفيما يتلق بعلاقة الحاكم والمحكوم مما مع وافتهم ومع محيطهم الداخلي والخارجي فإنَ أحكام الإجراءات الجزائية تعلي فكرة عامة عن مدى الخراط مجتمع من المجتمعات في نسق التحولات الإقتصادية والإجتماعية وفي نسق التحولات الكونية الكبرى ونوعية علاقات التعاون القضائي الثنائي أو متعدّد الأطراف لمقاومة بعض الظواهر الإجرامية الخطيرة التي تتجاوز آثارها حدود القطر الواحد كما أنها تعطي فكرة على مدى انسجامها مع الصكوك والمعايير الدولية ذات الصلة.
وأخيرا فإنَ أحكام الإجراءات الجزائية تبرز مدى صلة المجتمع بماضيه خدمة لحاضره واستثمارا لمستقبله من خلال ما يقع إقراره من مبادئ وآليات تراعي الثوابت والقيم وتستجيب لمواقع المعيش ولروح العصر والبحث المستمر عن بدائل جديدة للإجراءات الجزائية التقليدية تنسجم مع متطلبات الحاضر وتفتح آفاقا جديدة للمستقبل.
إن ما شهدته أحكام الإجراءات الجزائية في تونس من تطوّر وما أدخل على مجلة الإجراءات الجزائية في السنوات الأخيرة من تعديلات هامّة مثل تنظيم الإحتفاظ والإيقاف التحفظي وإلغاء عقوبة الأطفال الشاقة وإفراد قضايا الأطفال بمجلة خاصة أطلق عليها اسم مجلة حماية الطفل والتي تضمنت بدورها بدائل جديدة للإجراءات الجزانية التقليدية مثل نظام الوساطة, وإرساء نظام التقاضي على درجتين في المادة الجنائية و إحداث خطة قاضي تنفيد العقوبات هي من ببن الدوافع الحافزة على إنجاز هذا العمل.
فلقد جاءت هذه التعديلات والإضافات مكرّسة للتحولات السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية والثقافية التي عرفتها بلادنا في السنوات الأخيرة, وهي تضفي على أحكام الإجراءات الجزائية شهدا جديدا مغايرا للمشهد الذي تأسست في له أحكام مجلة الإجراءات الجزائية عندما تم إصدارها سنة 1968 وذلك بحكم الطابع الإنساني الواضح الذي تمت به. ومن يفن رسم هذا المشهد لأحكام المجلة على ضوء آخر التعديلات والإضافات المدخلة عليها وتنزيلها في أطرها و أنساقها المختلقة أصبح يشكل مطلبا علميا حريا بالإنجاز وها ما سعيت إلى تحقيقه بهذا العمل.
وتتمثّل المنهجية التي ثم إتباعها عند إعداده في التعليق على فصول المجلة وشرحا فصلا فصلا ثم تقديم أبرز المراجع الفقهية بشأن كل واحد منها وعرض مبادئ فقه القضاء المعلقة بها.
وبالنظر لغزارة المادة وتنوعها وحرصا على إشراء التعاليق والشروح بالقانين المقارن فقد دعت الحاجة إلى تقسيم العمل إلى أجزاء؛ ويغطي هذا الجزء الأول الكتاب الأول من المجلة المخصّص لإقامة الدعوى العمومية ومباشرة التحقيق في حين تغطي الأجزاء المتبقية والتي ستصدر بعون الله تباعا, بقية الكتب الأخرى للمجلة.
أرجو أن يكون هذا الكتاب أداة معينة للخاصة وأثرا مفيدا للعامة ولله الموفق.
والسلام.
القاضي رضا خماخم
يمكنك الحصول على نسخة PDF من التعليق على أحكام مجلة الإجراءات الجزائية: في إقامة الدعوى العمومية و مباشرة التحقيق.